من تراث بينو ـ عكار
صداقة عمر !!!
" رُبَّ أخٍ لك لن تلده أمك " من الأمثال الشائعة والصحيحة ...
في الخمسينات من القرن الماضي في بلدة بينو عكار لبنان الشمالي صداقة عُمُرْ بين أبو إلياس ( وديع الشاعر ) وأبو يعقوب ( يوسف نقولا )الذي أتى مع عائلته من ضهر الليسينة ـ قرية مجاورة ـ واستقر في بينو ـ وللمناسبة يوسف نقولا هو والدي ـ
كان وديع الشاعر بيطار بينو في منتصف القرن الماضي ، والبيطرة كانت مهنة ناجحة ومزدهرة في تلك الحقبة التي نسميها الزمن الجميل ، لأن وسائل النقل كانت تقوم على الدواب إذ أن السيارات كانت قليلة وتعد على الأصابع.
الحصان والبغل والحمار، كان البيطار يقص لهم نعالاً، من الحديد ( نَضْوَةْ )، تُثَبَّتْ على حافر الدابة، بمسامير، صنعت خصيصاً لهذه الغاية، ووديع الشاعر كان له الباع الطويل في هذه المهنة، إذ أنه كان معروفاً، في منطقة الجومة كلها، وقرى وبلدات الجوار، بأنه البيطار الوحيد ( الكندرجي ) الذي يجهز ويركب نعال الحديد ( نَضْوَة ) للحصان والبغل والحمار، وسائل النقل الأساسية في ذلك الزمن. سافر إبن وديع الوحيد إلياس إلى فنزويلا، عندما كانت تلك البلد في أوج مجدها الإقتصادي، والإنتاجي، وكانت بلداً مقصوداً من كل الجنسيات وخصوصاً اللبنانيين.
كان إبنه إلياس موفقاً في عمله، وحَصَّلَ بفضل كده وجهده، على نتيجة جيدة في الغربة، وأرسل لوالده الكفاية من الأموال، لبناء “ فيلاَّ " حجرية جميلة كما فعل الكثير من أبناء بينو المهاجرين.
كان والدي لا يزال في ضهر الليسينة. ولكنه كان على صلة يومية بوديع الشاعر ، فنمت بينهم صداقة وثقة، فعرض عليه أن يتعلم مهنة البيطرة، ويسلمه الدكان.
قرر والدي الإنتقال والسكن في بينو، فأنتقلت العائلة واستقرت في بيت رزق إندراووس، قرب بيت مخايل حنا مخول، وهو بيت حجري، سطحه من تراب، مكون من غرفتين، كما سبق وشرحت عنه في قصائد سابقة.
إستلم والدي المهنة مع أبو إلياس، واشتغل معه تدريجياً حتى أصبح واثقاً من نفسه، وسيد المصلحة.
كان أبو إلياس طويل القامة، مليء الجسم، مائل إلى السُمْنَة في وسطه، على رأسه الطربوش الأحمر، منتصب القامة، عذب الكلام، محبوب من أبناء الضيعة والجوار، كان دكانه كناية عن غرفة واحدة، في الطابق الأسفل من بيت حجري، ذو قناطر جميلة، ووالدي أخذ الغرفة الثانية، من ذلك البيت وكان جاره، ولا يزال ذلك البيت في ساحة بينو الجزء الأعلى من حارة السليق.
قبل مجزرة التغيير، وأكرر كلمة مجزرة، إرتكبتها الحضارة الجديدة، وكان ضحيتها عدة دكاكين، في جسم تلك الحارة القديمة، كانت هناك دكان المرحوم جرجي طعمة ملاصقة لدكان والدي، هُدِمَتْ كما هدم الدكان المقابل لوالدي، دكان السنكري إلياس بولص، مصلح بابور الكاز و" اللكس" والقناديل، التي كانت سائدة في ذلك الزمن ، كما هُدِمَتْ الغرفة، التي كان يسكن فيها حسن إبراهيم الراعي، وإمرأته فطوم الخرساء، المعروفة جيداً من سكان بينوومحترمة من جميع الذين عرفوها.
كذلك هُدِمَ دكان إبراهيم عبد المسيح، التي إستلمته من بعده إبنته أدال، ومن بعدها أخذها عبود الكفروني، وكان يذبح فيها " ملحمة الضيعة "، وما نسينا بيت حبيب حنا جرجس، الذي كان يوزع " اللكسات " على مداخل بينو ومفترق طرقاتها قبل وصول الكهرباء،
وأماكن أخرى في حارة السليق، وفي الحارات الأخرى من بينو هدمت وتعدَّلَ بنيانها برياح التغيير.
أسهبت قليلاً بالوصف، الذي لا بد منه ليفهم القاريء، كيف كانت بينو القديمة قبل " المجزرة "، إذ أن حارة برمتها هدمت بإسم الحضارة، والهدف توسيع الطرقات بين البيوت، لتدخل الشاحنات، والجرارات الزراعية، والسيارات، التي زادت التلوث والضجة، وتبدلت ضيعة الأحلام، البريئة، بضيعة الحضارة وضجيجها وتلوثها.
أبو يعقوب كان كثير الكارات. كان يحاول جهده ليؤمن حياة كريمة لعائلته، المكونة من سبعة أولاد، كان النجار وكان الحداد وكان الكندرجي وكان البيطار ... وكما يقول المثل :" كتير الكارات قليل البارات " ولكنه كان يكفي عائلته.
إنتقل وديع الشاعر من دكانه، الذي إستلمه أبو يعقوب، إلى دكان آخرمقابل، في الطابق الأسفل من بيت " أم صَعْب "، وأبتدأ تجارة جديدة في قوارير الغاز وتنك الكاز، وكنا نحن الموزعين، أنا وأخي، إذ حَضَّرَ لنا الوالد عربة، لتوصيل الطلبات إلى حارات الضيعة، و بيوتها ، وهي كناية عن صندوق من الخشب، على دواليب من الحديد "رومبيل "، كافية لأن تَسَعْ قارورة غاز وتنكة كاز، كنا نفرح بها، وهي فارغة، لأنها سهلة الدفع، وبمثابة لعبة لنا، أما عندما تكون مُحَمَّلَة، يكون فيها الغاز والكاز، صعبة جداً وخصوصاً في الطرقات الصاعدة إلى أعلى الضيعة.
كنا نقبض ربع ليرة على كل نقلة، والربع ليرة كنا نشتري بها الكثير، من الدكان في الستينات، بقي في هذه المصلحة بضع سنوات، ومن بعدها إعتكف الشغل، وكرَّسَ وقته للعناية بجنينته قرب بيته.
بقي والدي في هذه المهنة، حوالي الخمسة عشر عاماً، ومن بعدها إستلم دكان جرجي طعمة، الذي كان متصلاً ببيتنا، وملأه بالسمانة والبضائع المطلوبة في الضيعة ، وأصبح معروفاً بدكان أبو يعقوب.
كثرت السيارات، وتقلص عدد دواب النقل في المنطقة، وتراجعت البيطرة، فترك أبو يعقوب المهنة، وركز جهده في عمله على السمانة وتنويع بضائع دكانه الجديد.
أما أبو إلياس، فقد وجد شيئاً يشغله، ويقضي فيه بعض الوقت، ألا وهو كاراج بيته، الذي حوله إلى مكان، لممارسة هواياته في النجارة، و( الحرتقات ) البيتية، كصناعة وحفر قوالب المعمول، والطابع الخشبي، الذي يُسْتَعْمَلْ لكعك الضيعة التقليدي ( المُرَقَّدْ ) حتى أنه أول من صنع القالب الخشبي، المُسْتَعْمَلْ لرَق أقراص الكبة، والكعك، وهو كناية عن دائرتين من الخشب، تجمعهما مُفَصَّلة حديد مع قبضة ( مَسْكَة)على كل دائرة، توضَعْ كُرَة الكبة أو كُرَة العجين ويضغط عليها حتى تُصْبح مرقوقة ومسَطَّحَة.
وقد أصبحت هذه القطعة الخشبية، أو الآلة، إذا شئنا أن نسميها، شعبية، ومنتَشِرة في كل المحلات، التي تبيع الأدوات المنزلية حتى أنها أصبحت تُبَاع، في كل المحلات اللبنانية، في دنيا الإغتراب، ولو كان في ذلك الزمان، حصرية وقانون الإمتياز، والإختراع، لسُجِّلَتْ هذه القطعة من إختراع وديع الشاعر.
وفي أستراليا لا أزال أحتفظ بهذه القطعة، و( مَنْقَش ) الكعك والمعمول، من صناعة المرحوم صديق الوالد وديع الشاعر.
دكان أبو يعقوب كانت ملتقى كبار الضيعة، وأذكر منهم نقولا الكفروني، حنا وهبة، نقولا جريج، سميح الخواجا، نقولا سابا، توفيق الزمار...، وأحياناً كان حنا نوفل يتردد إلى الدكان، وكانوا يعتبرونه المهرِّجْ، إذ أن حضوره مشهور بالنكتة، والمقالب المضحكة، بينه وبين أصحاب الكاس من رواد الدكان.
أذكر جيدا تلك الحارة، ودكاكينها جملة وتفصيلا، أذكر دكان إبراهيم عبد المسيح ( أبو أحمد )، مقابل دكان أبو يعقوب، كيف كان يجلس في زاوية دكانه ، ضعيف القامة، طويلها وطربوشه الأحمر على رأسه، تتراقص شرَّابَتَه، يمينا ويسارا، عندما يحتد بكلامه، ونربيج الأركيلة في فمه، واضعاً رجلاً على رجل، وكأنه في السماء السابعة.
غالباً ما كنا نسمع إبنه فاروق يلعب المنجيرة، في الدكان، فيجتمع حوله صبية الحارة، للإستماع، وللدردشة معه، ومع أخيه طلال، وأحيانا، كنا نسمع إلياس بولص، مُصَلِّحْ بوابير الكاز، يغني في دكانه، بلحن ممسوخ، بصوته، الذي هو أقرب إلى قراءة الكلمات، منه إلى الغناء.
تلك الزاوية الصغيرة في أعلى الحارة، كان فيها العديد من الدكاكين، وذكريات لا تفارق المخيلة، لبساطتها، وعفويتها، وصدق تلك الأيام الذهبية من تاريخ بينو.
كان أبو إلياس يقصد دكان أبو يعقوب يومياً، وأحيانا تدوم الزيارة ساعات، من دردشة، ومراقبة مفترق الطريق، والمارة في كل الإتجاهات، وكانت تحلو جلساتهم أيام الشتاء، عندما كان والدي يضرم نار الكانون، ويغلق باب الدكان، نصف غلقة، ليرد ( النسمة الشرقية )، كما كان كبارنا يقولون ( صقعة بِتْقُصِّ المسمار، نسمة شرقية بتفوت بالعضام، برد تشارين بيخَزِّنْ بالمصارين) وإلى ما هنالك من أمثال، في قاموس الضيعة.
أذكر أبو إلياس جيداً، في البدلة الشتوية، يرتدي معطفه " كبوت ترانشكوت لون باج " و " كالوش " فوق حذائه، وللذين لا يعرفون الكالوش، هو كناية عن حذاء، من الكوتشوك، أكبر من الحذاء العادي، يُلْبَسُ فوقه، لحمايته، من المياه، والوحل، في أيام الشتاء.
كانوا يجلسون، حول الكانون، على كراسٍ من القَشْ، صغيرة، وغالباً، ما كان يمرعليهم خليل الأخرس، ليشتري بطحة عرق "بَلابانْ" أونعمان الحداد، الذي يبشرهم بقدومه، عندما يسمعون كلمة رررررررررراحِتْ، من الجهة المقابلة، من الطريق، ويدخل الدكان، ويقول لوالدي : " بَطحة أبو سَعْدَى يا بو يعقوب عمول معروف " مع بعض الدردشات الفكاهية كعادته.
وما أذكره عن أبو إلياس، وعن أبو يعقوب، أنه في موسم الدخان، كانوا يحضرونه بأنفسهم، إذ أن والدي كان يشتري الدخان، ورقة خضراء، عشرة أو خمسة عشرة كيلو، وينشره على حبالٍ، كالغسيل، حتى يصفر، وينشف، ومن ثم يغرمه، على " فَرَّامَة "، صنعت خصيصاً للدخان، وكان هذا المشروع، مَؤونة السنة، لأبو إلياس وأبو يعقوب .
نذكرهم عندما كانوا يجربون هذا الدخان العربي، "اللَّفْ"، في الدكان، ينفخون الدخان في الهواء، فإذا كان لون الدخان أبيض، كثيف، يكون الدخان جيداً، أي بتعبيرهم "سِلِسْ"، أما إذا كان كثيفا، ولونه يميل إلى الصَفَار، تكون النوعية غير جيدة "شِعْطَة".
كل هذه الملاحظات كنا نسمعهم يتداولونها، عندما يجربون الدخان الجديد، وخصوصاً بوجود بعض الأصدقاء، الخبراء، بصنعة التدخين ، فتتضارب الآراء، ويحتدم الجدل، الساخر، بين الحضور.
كان أبو يعقوب يذهب كل صباحٍ، ليزور أبو إلياس في " مشغله " ـ كاراج البيت ـ يشربون قهوة الصباح، مع شوية دردشة، ومن ثم يرجع والدي، ليفتح دكانه، فيتبعه أبو إلياس، ليقضي بعض الوقت، في الدكان، وليتحرى نشرة أخبار الضيعة، من زبائن الدكان، والبياعين الجوالة، الذين يقصدون تلك المحطة الشعبية، في حارتنا، ملتقى الدكاكين، ومفترق طرق في أعلى الحارة.
كان والدي يتردد إلى " مَشْغَلْ " أبو إلياس في كاراجه، ويتداولون أفكاراً، في النجارة، وبعض التجارب، وكان والدي يشغل "السَمَرْ" و "الشِنْد" وإيضاحاً للجيل الجديد، الذي لا يعرف هذه المصطلحات، أوضح أن السَمَر،ْ هو كناية عن قالب خشبي، يوضع على ظهر جلال البغل، لتثبيت الحمل على البغال، وربط الحمولة، بطريقة قوية، أما الشند، كنايةعن قالب خشبي، يختلف عن السَمَرْ، والشند خصيصاً للحمير، لتثبيت صناديق الحمولة، على ظهر الحمار، وفي هذه المهنة كانو ينسقون مع سطوف، صانع جلالاتْ الحمير، وبرادع الأحصنة، الذي كان يصنعها، في دكانه، في أسفل الحارة، التي طارت من تاريخ الحارة، بفضل التغيير.
كان والدي وأبو إلياس يفضلون خشب الدلب، والجوز، لصناعة هذه القوالب وتجارب النجارة.
كان أبو إلياس يملك بستاناً، على ما أذكر، في منطقة "البحاصيص"، وكان فيه أشجاراً، من " العَفْص" الملول، وعلى بعضها عرائش من العنب، وغالباً ما كنت اصطحبه، في الصباح الباكر، لقطف سلة، أو سلتين، من العنب، "المرواحي والصرعاني"، وكلما كنت أتسلق الشجرة، وأبلغ إلى نصفها، يصرخ أبو إلياس " دخيلك ياعمو يلعن أبو العنب إنتبه لا تزحط بيكفيني اللي بالسلة " وكان يخاف جداً، عندما كان يراني أتسلق إلى أعلى الشجرة، كقرد طرزان ، فيصرخ فييَ بصوتٍ مخنوقٍ، متقَطِّع، أن أنزل، خوفاً علي من الإنزلاق، والوقوع من الشجرة.
إنها لذكريات، لن أنساها أبداً، مع أناس محبين، وبسطاء، يقدرون تعب الآخر، ويحفظون المودة، والصداقة، من أمثال وديع الشاعر، كم نحن بحاجة إلى أناس، يملكون الصداقة والكرم والعطاء،ويملكون الثقة وثقة الناس بهم.
أذكر مسألة ثقة وأخلاق، بين أبو إلياس ووالدي، وهوأن والدي عندما إشترى البيت، الذي نسكنه، تَدَيَّنَ من أبو إلياس بضعة آلاف من الليرات، ليتمم ثمن البيت، دون أوراق، ولا إثباتات، ولاشهود، كلام ثقة فقط، وكانت الليرة في الستينات، من القرن الماضي، لها قيمتها، أما والدي رفض أن يسجل البيت، بإسمه، فقال لوديع: "سجل البيت بإسمك، حتى أوفي الدين، أنقله لإسمي" فقبل أبو إلياس، بعد جدلٍ طويل، وهكذا كان. وأذكر عندما هاجرنا، أخي وأنا، إلى أستراليا، أرسلنا لأبو إلياس ما تبقى من سعر البيت، عندها تنازل وديع، وسجل البيت، بإسم والدي/ عند كاتب العدل في حلبا.
حكاية طويلة، ولكنني أردت أن أظهر مدى الصداقة، والمحبة، والثقة، بين صديقين، في ذلك الزمن وهذا ما نفقده في زمننا، هذا للأسف، ونترحم على ماضينا الجميل.
كان أبو إلياس مغروماً في جنينته، و جاجاته، نذكر مراراً كان يعطينا خضارا،ً وفاكهة منها، وكان فطوره اليومي، صباحاً، بيض مقلي، من جاجاته، مع توم أخضر، في موسمه، أو مع النعناع الأخضر، أو الشنكليش.
كان مرحاً، ويحب المزاح، ونذكر عنه نادرة، إذ أنه كان عائداً هو ووالدي، من جنازة أحد كبار الضيعة، فقال لوالدي، جملته الشهيرة عن الموت :
" والله يابو يعقوب لو عارف حالي بدّي إرجع على هالدني، الله يلعن اللي بيزعل، بس هَيْك يروح الواحد، وما يرجع، يعني روحة بلا رجعة، والله صعبي كتير يا بو يعقوب".
فضحك والدي وقال له :
" خلي إيمانك قوي بالآخرة، يا بو لياس، هني السباقين، ونحنا اللاحقين، وهيدي هييِ حْوال الدني".
وكثير من النوادر والدردشات بين الإثنين نكتفي بما ذكرناه.
مرَّتِ الأيام والسنون، وأتت الحرب الأهلية المشؤومة ، التي قَطَّعَتْ أوصال الوطن، وهَدَمَتْ إقتصاده، وهجَّرَتْ الكثير من أبنائه، حينها إنهارت العملة اللبنانية، وتدنَّتْ قيمتها جداً، وأفلست الكثير من اللبنانيين، الذين خسروا ودائعم في البنوك، والذين كانوا يملكون مئات الألوف من الليرات اللبنانية، ويعدون من الأغنياء، الميسورين، أصبحوا على الحضيض، وألوفهم أصبحت لا قيمة لها، وكانت الخسارة كبيرة، للطبقة الغنية، والمتوسطة، وخاصة أصحاب الودائع في الليرة اللبنانية.
كان أبو إلياس من جملة الخاسرين، إذ أن ما كان يملكه في البنك، في الليرة اللبنانية، قد أصبح لاقيمة له، فحزن جداً، وكان أبو يعقوب يواسيه، ويمضي معه أكثر الأوقات.
كبر أبو يعقوب في العمر، وكان مريضاً في الكِلَى، وتعالج مراراً في لبنان، فما كان هناك أي تقدم، فقررت العائلة أن يسافر إلى أستراليا، حيث أبنائه هناك، ظناً منها أنه سيتلقى علاجاً للكلى، أفضل من لبنان.
حزن أبو يعقوب جداً، لهذا القرار، وكان حزن أبو إلياس أكثر منه، إذ أنه كيف سيفارق صديق العمر ؟؟؟، كيف سيفارق من شاركه البسمةـ والحزنـ ومن كان أنيسه لسنين عديدة ؟؟؟
ولكن القدر لعب لعبته وفرق أصدقاء العمر ...
حاول أبو يعقوب أن يبيع ما تبقى من بضائع، في دكانه، قبل أن يقفلها إلى الأبد، وهذا ما حصل، أقفل أبو يعقوب دكانه، وحزن جيرانه، وأهل الحارة، الذين إعتادوا للتردد لهذا الدكان، وطُويَتْ صفحة تراثية، في حارة السليق، وأصبحت من ماضي بلدة بينو.
سافر أبو يعقوب إلى أستراليا، وحزن جداً لسفره، صديق عمره، أبو إلياس، صداقة سنين طويلة، وخصوصاً في مساء العمر لكليهما، فرقتهم الهجرة، وأصبح أبو يعقوب في هجرته، كالعصفورالحزين، الذي فارق سربه، وأصبح وحيداً، في دنيا غريبة.
وأذكر أن والدي ( أبو يعقوب ) كان يذكر أبو إلياس، مراراً، ويريد أن يرسل له بضع مئات من الدولارات، كهدية رمزية، عرفاناً للجميل، ووفاءً لسنين طويلة، من المحبة والإخلاص، وهذا ما حدث، وعندما إستلم صديقه أبو إلياس هذه الهدية، تأثر كثيراً، لهذه اللفتة من صاحبه، و بكى حزينا، لفراقه، وبُعْدِ هذا الصديق.
ولكن أيام الغربة كانت صعبة جداً، على كبير السن، وخصوصاً إذا كان مريضاً، وهذه ما كانت حالة والدي أبو يعقوب، غالباً ما كنت أراه جالساً قرب الشباك، متأملاً في هذه الدنيا، حزين النفس، دامع العينين فأسأله " شو باك يا بيي ليش بشوفك حزين وزعلان ؟؟؟ "
فكان جوابه دائماً "اللي بيترك بلادو يابييِ بهالعمر شو بدَّك ياه يكون؟؟؟.
سنة واحدة، سكنها والدي في أستراليا، مريضاً بين المستشفى، والبيت، إلى أن وافته المنية، عن عمر يناهز الواحدة والسبعين عاماً، حزن أبو إلياس جداً، لوفاة صديقه أبو يعقوب، في أستراليا، وبكى حزيناً، لفقدانه، وطويت صفحة صداقة عمر بينهما، بفقدان صاحبه.
وفي سنة ٢٠٠٣ توفيت رفيقة عمر أبو إلياس عزيزة طعمة، وكانت الضربة القاسية على إنسان، في مساء العمر، وعاش أبو إلياس زهاء سنتين، من بعدها مريضاً، وكان يذكرها يوميا، ويسأل عنها، إلى أن وافته المنية، سنة٢٠٠٥ عن عمر يناهز الثانية والتسعين، وكانت نهاية حكاية صداقة دامت أكثر من أربعين عاماً.
حكاية صداقة قصيرة، ولكنها عبرة للجيل الجديد، لأن تلك الصداقة قامت على المحبة، والثقة، والإحترام المتبادل، دون مأرب، أو مصلحة، وهذا ما نفتقده في زمننا هذا.
فإلى روح المرحومَيْن، أبو إلياس وأبو يعقوب، وتخليداً لذكرهما، ولصداقتهما الدهرية، هذه القصيدة :
"صداقة عمر"
صديقِ العمر بْحَيِّيهْ
جَوَّاتِ القلب بْخَبِّيْه
يطلب مني اللي بيريدْ
شو بيطلب مني بَعْطيْه
.....
بو يعقوب وأبو لياس
صحبتهم عرفتها الناس
إخوة ... من غير أم وبَيْ
هيكِ الأخلاق بتِنْقاسْ ...
.....
يا صورة هاكِ الدكان
البَعْدا بقلبي محفورة
شْواكيش وعِدِّة وسِدَّانْ
نضاوي مقص ومعدورة
.....
كانوا بالضيعة إخوان
مع بعضن صحبة مْنِزْمان
جَمْعِتْهُمْ هاكِ الحارة
وحبوهُنْ كلِّ الجيران
.....
بو لياس اللاَّبِسْ طربوش
شو مهضوم ووجُّو بْشوشْ
بفصلِ الشتوية معروف
" بالترانشكوت وبالكالوش "
.....
هاك الحارة الجمعتنا
بالماضي في ضيعتنا
حلوة العيشة فيها كتير
شو حلوة ... يا حارتنا ...
....
كان فيها إخلاص كتير
وقناعة باللي موجود
ومحبة وحسنِ التدبير
والوحدة بإيام السود
....
بو يعقوب ودكانو
كانت تحفة زمانو
فيها من كل الأشكال
وشو كان يرضي جيرانو
....
بو لْياس وأبو يعقوب
حكاية صحبة دهرية
حكاية فيها صافي قلوب
بهاكِ الحارة المنسييِ/ة
......
ميلاد نقولا أستراليا